تمزيق وحدة الصَّومال الكُبرى بتخطيط أعدائه وتنفيذ أبنائه المقال الخامس

تمزيق وحدة الصَّومال الكُبرى

بتخطيط أعدائه وتنفيذ أبنائه

المقال الخامس

كتبه الدكتور/ عمر إيمان أبوبكر

1443هـ= 2022م

.

 

رغبة الشعب الصومالي في توحيد كلمته تحت راية واحدة لأسباب:

 1ـ إن الحقيقة التي لاينبغي أن تغيب عن بالنا هي أن الشعب الصومالي من الشعوب المسلمة التي تتعطش، وتَحِنُّ إلى توحيدها من جديد تحت راية واحدة كما كانت في العصور الماضية، وقد ملَّتْ مِن توزُّعها في دويلات أشباه دول، بل هي مسميات وهمية لا تبني مجداً، ولا تدافع عن شرف، فهي تشاهد اليوم، وترى بأم أعينها الوضع الذي وصلت إليه من الضعف والمهانة بسبب التشرذم والتفرق مما يندى له الجبين، وصارتْ بسببه أرضُ الإسلام كَلأً مستباحاً لكل الطامعين، فهو(أي الشعب) يحب أن يرى القومية الصومالية المسلمة تتوحد تحت مظلة واحدة قبل أن تخطو خطوة أخرى نحو الأمة الإسلامية، فالأهداف لا تتحقق دفعة واحدة، والأخذ بالتدرج من السنن الكونية، والعدو قد بذل جهداً كبيراً في تفريق الأمة وتقسيمها فلا بد للأمة أن تبذل في توحيد صفها من الجهد والوقت أضعاف ما بذله العدو في تفريقها، فالهدم أسهل من البناء.

2ـ إن الشعب الصومالي يرى أن جسده قد مُزِّق أشلاء هنا وهناك، فبعضه في كينيا، وبعضه الآخر في إثيوبيا، والدولة الصومالية الحرة مهددة منهما، فلا يريد اليوم أن يرى تقسيم ما تبقى من الدولة الصومالية، فليس هناك من طريق للحفاظ على الدولة الصومالية واسترجاع حقوقه إلا بجمع كلمته تحت راية واحدة، ولهذا فالشعب الصومالي بين مفترق الطرق، فإما أن يُوحِّد صفه، ويُقوِّي جبهته الداخلية حتى يتمكن من الدفاع عن نفسه أولاً، ليكون في مأمن من عدوِّه المحيط به من كل الجهات، ثم بعد ذلك يطالب حقه الضائع في الدول المجاورة، وإما أن يستمر فيما هو عليه اليوم من التفرق والتشرذم فيكون عرضة للزوال باحتلال أرضه الحرة.

3ـ إن مما يزيد من رغبة الشعب الصومالي في توحيد صفه تحت راية واحدة أنه مهدد من قبل من هو دونه في المرتبة من الشعوب، مثل شعب كينيا الزنجي الوثني، وإن تنصَّر بعضُه في الآونة الأخيرة، و قد كان الرعاة الصوماليون سابقاً يأسرون أفراداً منهم، يستخدمونهم في الأشغال الشاقة من الزراعة والسقي والرعي، وغير ذلك من الخدمات، فالشعب الكيني يحتل اليوم مساحات واسعة من الأراضي الصومالية، وهذا مما يحُزُّ في النفس، ويزيد في الهم، وليس هناك من طريق للخروج من ذلك المأزق المذل الذي لا يليق بالشعب الصومالي المسلم المعروف بنضاله عبر التاريخ إلا باستعداده التام من جديد، ثُم الشروع في الأخذ بالأسباب، ومن أقوى الأسباب في الدفاع عن النفس، واسترجاع الحقوق توحيدُ الصف، وجمعُ الكلمة.

مُقوِّمات وحدة الشعب الصومالي كثيرة منها

1ـ إن الشعب الصومالي قومية واحدة يرجع كله إلى أصل واحد، ثم هو فوق ذلك شعب مسلم يدين بدين الإسلام أبا عن جد، وهو أيضاً من أهل السنة والجماعة، وعلى مذهب الإمام الشافعي في الفقه، وعليه فعنده من مقومات الوحدة ما ليس في شعب آخر، فإذا كان هذا الشعب الذي لديه كل تلك المقومات يريد تقسيم بلده إلى دويلات، فما ذا يكون شأن البلدان الإسلامية الأخرى التي تتكون من قوميات، وعرقيات مختلفة، ومذاهب متباينة، وأديان مختلفة.

ومع تلك المقومات فالشعب الصومالي نشط لا يتكل على أحد بعد الله في اكتساب رزقه، وتدبير شؤونه الخاصة كثيرُ الحركة، فالمهنة التي يعشقها بعد الرعي والزراعة هي التجارة لأنها تتناسب مع ميوله الاستقلالية غير أنه فيها متهور، يعتمد على المغامرة، فهو إما أن يربح في مدة يسيرة، فيكون غنيا، أو يفشل فيها فيخرج من السوق مدينا، وكل ما يحتاج إليه هذا الشعب هو التوعية والتوجيه والأخذ بيده نحو تخطيط سليم لمشاريعه، والترشيد لجهوده، ولو وُجد ذلك لكان كفيلاً للحد من مشكلة الفقر التي يعاني منها أكثرية الشعب، والذي نعتقد أنه لو حُلَّت مشكلة الفقر لانحل معها كثير من مشاكل البلد بما فيها هذه الانقسامات الجارية التي لا تتوقف.

2ـ إن الشعب الصومالي في القسم الحر كان ولا زال مهدَّداً من قبل الدولتين المجاورتين، فلا تزالان تطمعان في المزيد من الأراضي الصومالية في القسم الحُرِّ كما أشرنا إليه سابقاً، وكان من المفترض أن يزيد ذلك التهديدُ للشعب تماسكاً وترابطاً فيما بينه لدرء ذلك الخطر المُهدِّد لوجوده، وليعتبر بما يتعرَّض له إخوانُه في الأراضي المحتلة من الإهانة والتهميش، ومصادرة حقوقهم، وأما السعي لتفكيك الدولة الصومالية، فليس ذلك في مصلحة أحد، بل إن في ذاك تسهيلاً للعدو في تحقيق مطامعه في الصومال، والغريب في الأمر أن المفسدين هم الذين يتصدرون المشهد، ويجهرون ببرنامجهم التخريبي من تقسيم الوطن في حين أن المصلحين ساكتون على ذلك مع علمهم بما يُفضي ذلك من الخراب والدمار ثم الاختفاء من الوجود.

3ـ إن معظم أراضي الشعب الصومالي منهوبة من قبل الدول المجاورة  (إثيوبيا وكينيا) فلا يمكن استردادها إلا بتوحيد الصف وتقوية الروابط بين الشعب الصومالي في الأرض الحر بدلاً من التفكير في تقسيم الجزء الحر، وبذلك يتمكن من تحرير بقية أراضيه سِلماً، أو حرباً، فإذا تفكَّك الصومال الحر إلى دويلات ضاع كلُّ أمل الصوماليين في الأراضي المحتلة، وليس هذا فحسب بل إن التقسيم يُعرِّضُ القسمَ الحرَّ من الصومال لخطر الاحتلال من الدول المجاورة التي لا تُخفي طمَعها في ذلك كما أشرنا إليه غير مرة.

فقد يتساءل المرء عن السبب الذي يجعل الشعب الصومالي أكثر الشعوب تفرقاً واختلافاً مع وجود كل تلك المقومات لوحدته التي لا تتوفر في أيِّ مجتمع آخر، فالجواب هو أن الشعب الصومالي جعل القبلية فوق كل تلك المقوِّمات بحيث رفع القبلية فوق الإسلام، فكان ولاؤه لها فوق كل الولاءات، فلم تُجدنا نفعاً كلُّ تلك المقومات أمام القبلية البغيضة.

 فالشعب الصومالي بعقليته المتخلفة المبنية على الرؤية القبيلة يريد أن يكون كما كان قبل قيام الدولة الصومالية بحيث كانت كل قبيلة تهيمن على أراضيها، فتعتبر ذلك قمة في الاستقلال، والتفرد بالقرار، ولا يدري أن ذلك هو الذي أفضى إلى احتلال البلد بأكمله، فلو كانت هناك دولة صومالية مكتملة الأركان لما طمع هؤلاء الأعداء في احتلال أراضينا لكنهم وجدونا فرادى لا يربط بيننا رابط، فأغراهم ذلك على احتلال أرضنا، ثم استخدمونا كعمال المناجم لاستخراج خيرات بلادنا، فمن المؤسف جداً أن تعود تلك العقلية اليوم، فيرى بعضنا أن تقاسم البلد الواحد على أسس القبيلة هو الحل الأمثل  لمشكلاتنا، فهذا العالَم الذي نعيشه اليوم هو عصر التكتلات، وليس بعصر الانقسامات، فلا مكان فيه لمن لا يستند إلى حبل من التحالفات الدولية.

فلو أننا تآخينا بالإسلام الذي نؤمن به عقيدة، وربطنا ولاءنا به لكُنا جسداً واحداً يتألم الجميع إذا اشتكى منا فرد واحد، فلا حلَّ لما نشتكي منه إلا بالإسلام عقيدةً وشريعةً، وقد سعد بالإسلام من كان أشد منا تفرقاً، وأكثر منا تخلفاً، فصاروا بالإسلام قادة العالم، فمن الخيبة أن يكون بيد الإنسان كل أسباب النهوض، ثم يختار عليها ما يشقى به دنيا وأخرى، (ومن يُهن الله فما له من مكرم).

دور الشعب الصومالي في توحيد أرضه أو تقسيمها

فالشعب الصومالي المسلم كغيره من الشعوب المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها يريد أن يتحد تحت راية واحدة، لكنه وبكل أسف فليس الأمر بيده، فهو كقبيلة تيم التي قال عنها الشاعر:

(ويُقضى الأمر حين تغيب تيم… ولا يستأذنون وهم حضور)

وأستطيع أن أزعم أن ليس للشعب الصومالي دور في وحدة أراضيه،    أو تقسيمها، فكل أهل منطقة يتبع زعيم تلك المنطقة، فإن أراد الانفصال، فالشعب في تلك المنطقة على مذهبه السياسي، وأن أيَّ شخص يخالفه في ذلك يُعتبر خارجاً عن الإجماع الوطني، فإن أصرَّ على موقفه، ولم يرضخ لإرادة ذلك الزعيم، فإنه بذلك يصير عميلاً لجهات خارجية يُعرِّض الأمنَ القوميَّ إلى خطر، أقول ذلك: لأنه لا يُمكن أن يَخفى على الشعب في منطقة الانفصال ما يترتب على الانفصال من مخاطر جسيمة تُعرِّضُه للزوال، أوالذوبان في الدول الأعداء المجاورة، وإنما يسكت على ذلك مع علمه به، لأن كلامه في ذلك لا جدوى منه، وإنما يضر به نفسه فقط، ولو أن الشعب الصومالي من الشعوب الواعية لما تجرأ هؤلاء القادة أن يتلاعبوا بمصيره على هذه الطريقة التي لا تخفى على من له أدنى مُسكة من عقل، أو شمعة من علم.

 وقد ابتُلي الشعب الصومالي بخصلتين، كل واحدة منها أسوأ من الأخرى: وهما الجهل والتعصب، فالجهل هو الذي عبَّرْنا عنه بعدم الوعي، وأما التعصب القبلي فهو الذي وضع الشعب الصومالي في هذا المأزق الذي هو فيه، فلئن يهلك القبلي على رأي زعيمه أحب إليه من أن يسعد برأي غيره من غير قبيلته، وهذه قاعدة معروفة عند كل القبليين سطرها الجاهلي القبلي دريد بن الصمة بقوله:(ما أنا إلا من غزية إن غوت … غويت وإن ترشد غزية أرشد).

والشعب الصومالي لم يكتف بالتقصير في إدارة شؤون بلده بل تعدى إلى ما هو أبعد من ذلك من صناعة الطغاة من القادة بنفسه، لأنه هو الذي يَرضي أن يتسلم القائد مقاليد الأمور بالانقلاب، أوبانتخابات مزورة، ثم يحكم البلاد بالطريقة التي يراها دون استشارة من أحد، ومع ذلك يستقبله الشعب بهالة من الحفاوة، وينسج عليه خيوطاً من الزهور والأكاليل ابتهاجاً بوعوداته التي لا يملك سبيلا لتنفيذها، ثم يُصفِّق له في كل خطوة يخطوها، فيظن القائد أنه إنسان غير عادي، فيتفرد بحكم البلاد دون إيجاد هيئات استشارية، ولا لجان رقابية تضبط تصرفات كل مسئول فيما أُسند إليه من المهام، ويتصرف القائد، وكأن البلد مُلك له، وليس للأمة فيه حق إلا ما يتفضل به عليها، ولا يزال التهميش بالأمة حتى تتحول إلى أبواق تعكس صدى كلام الرئيس.

فلا يزال يتصرف كيف يشاء دون الرجوع إلى أحد باعتباره هو المخول بذلك، يحكمُ الأمة على مزاجه حتى يؤمن أنه لا يحق لأحد اعتراضٌ عليه فيما يتخذه من قرارات، فالحق ما قاله، والباطل ما خالفه، فإن أخطأ، فخطؤه صواب، وإن أصاب فهو اختراع وإنجاز، وإن إبداء الرأي من أيِّ طرف آخر في قضية من قضايا الدولة على خلاف رأي الرأس يُعتبر اتهاماً للرئيس في عدم الفهم، وقصور الرأي، فيوضع صاحب تلك الرؤية في خانة المعارضين للرئيس، وعلى الكل أن يكونوا طوع أمره، وتحت إشارته، وعلى الشعب أن يضع عقله جانباً لأنه كُفي بعقل الرئيس، فالرئيس هو الذي تحمَّل وحده المتاعب في ذلك، وأرهق نفسه ليريح بقية الشعب من التفكير في شأن البلد، وهو في ذلك مشكور، والميدان الوحيد الذي بقي للشعب أن يتنافسوا فيه هو تسهيل فهم ما يتخذه الرئيس من قرارات، وتقريبها لعامة الناس حتى يَرتقُوا إلى مستوى خطاب رئيسهم الملهم.

دور العلماء في منع تفكُّك البلاد

والعلماء مطالبون بأن يقوموا بدورهم المنوط بهم في إنقاذ الأمة من الوقوع في المهالك، ولكنهم متفاوتون في إدراك تلك المسؤولية، ولهذا فلا نضعهم كلهم في خانة واحدة، فهم ليسوا سواء، فمنهم من هو جزء من المشكلة، ولا يصح إشراكهم في البحث عن الحلول، ومنهم لا تعنيهم قضية الانفصال أو الوحدة من قريب ولا بعيد، فسواء عندهم أن يتحد الصوماليون أم يفترقوا، بل الانشغال بمثل هذه المواضيع في نظرهم مضيعة للوقت، لهذا فليس لهم فيها تأثير سلباً، ولا إيجاباً، ومنهم من يهتم بالقضية، وترافقه في سفره وإقامته، ونومه ويقظته، ولكنه لا يدري من أين يبدأ، ويخشى إن تكلَّم فيها أن تسحقه الجماهير بأقدامها، فيَستغله النظام القائم، فيتهمه بالخيانة الوطنية، فيُعرِّض العالم نفسَه بالخطر دون أن يكون لكلمته تأثير في تغيير الوضع.

أما الصنف الأول الذي هو جزء من المشكلة، فهم علماء السلاطين، وهم موجودون أينما وُجدت الأنظمة الاستبدادية، فلا ينشطون إلا في ظلها، وليس لهم في سعيهم هَمٌّ غير ترضية الحاكم، فيغيرون فتاويهم على حسب مزاج الحاكم، فأينما توجه حاكم البلاد، فثَمَّ علماؤه المبرِّرُون لكل خطوة يخطوها، بل إنهم مستعدون أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من الانفصال، فلو قرَّر رئيس الصومال، أو رئيس أحد أقاليمه في جنوب الصومال، أو  وسطه، أو شماله أن يضم البلد بأكمله، أو إقليمه إلى كينيا، أو إثيوبيا لبادر علماء السلطان إلى الترحيب بتلك الخطوة، والمباركة عليها معتبرين ذلك إنجازاً يحسب له، فمتابعة الحاكم فيما يتخذه من قرارات من المسلَّمات التي لا تخضع عندهم للمساومة، أو النقاش، وقد قلتُ في هذا الصنف من العلماء في أحد كتبي:(لو أن الحكومة أقدمت على تبديل الإسلام إلى النصرانية مثلاً لبادر بعض علماء السلطان إلى الدفاع عن ذلك الموقف بحجة أن ذلك اختلاف العبارات، وأن الأديان كلها وسائل تؤدي إلى نفس الهدف، فبأيها أخذ الإنسان، أو صلته إلى الهدف المنشود، وعليه فلا مانع من الانتقال من دين إلى دين،ولكن جرت سنةُ الله في خلقه أن يكشف للناس حقيقتهم (ما كان الله ليذر المؤمنين على  ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)([1])

 وقد وقع ما كنت أخشاه، فقد أقدمت بعضُ الدول على استبدال الإسلام بدين جديد، اسمه الدين الإبراهيمي، فبادر علماء السلطان في ذلك البلد إلى مباركته والإشادة بتلك الخطوة الجريئة التي اتخذها حاكمهم، فتبين بذلك أن ليس المهم عندهم نوعية القرار، وإنما المهم صدوره من الجهة العليا، فتلك هي شرعيته، وليس فوق سلطة الحاكم في نظرهم سلطة أخرى.

وأما الصنف الثاني من العلماء الذين لا تعنيهم قضية تَفكُّك الصومال، أو وحدتها، فهذا الصنف من العلماء عندهم من العلوم الشرعية ما ليس عند غيرهم، وسمعتُهم في البلاد قد ضربت الآفاقَ، وكلمتهم مسموعة عند الشعب لكن فيما يتعلق بالشأن العام، فهم عنه في صمم، والذي حملهم على اتخاذ هذا الموقف الحيادي أن الواحد منهم يحب أن يكون مرضياً عند كل الأطراف، ويعلمون أنه لا سبيل إلى ذلك إلا السكوت عن كل ما تختلف عليه الأطراف الصومالية المتصارعة في الساحة، وعدم اتخاذ موقف محدد منها حرصاً منهم على سمعتهم التي هي أهم من مصير البلاد ومستقبل الأمة، فالمهم أن لا يُصنَّف أحدهم أنه ضد أي طرف من المتخاصمين.

وهذا الموقف يُذكِّرُني بالمندوب الإيطالي أيام كانت الصومال تحت الوصاية لمجموعة من العلماء حضروا إليه، وكانوا لا بسين بالقمصان البيض، قال لهم:(إن قلوب العلماء من الصفاء كصفاء ثيابهم البيض، والسياسة نجسةٌ، فلا تُنجِّسوا قلوبهم بها، وابتعدوا عنها).كان ذلك مكراً وخديعة منه أخرجه على سبيل النصيحة، وإنما كان قصده من ذلك هو فصل الدين عن الدولة عن طريق إبعاد العلماء عن المشاركة في حكم البلاد.

وأما الصنف الثالث فهو المقصود في حديثنا عن العلماء، وهذا الصنف هو الذي نطالبه بأن يطَّلع بدور محوري في هذا الوضع المتأزم المحدق بالشعب الصومال، والخطر الذي يهدد وجوده وكيانه من تفرقه في دويلات متعددة تكون عُرضة للاستيلاء عليها واحدةً تلو الآخر من قبل الدول المجاورة، وقد أخذ الله على العلماء بالمواثيق والعهود في بيان الحق، ثم الدعوة إليه بكل الوسائل الممكنة، وإن لزم منه التضحية بالنفس والمال، فكل الإنجازات التي تحقَّقت للأمم عبر التاريخ حصلت على جماجم العلماء، وأرواح الشهداء (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب). ومن غير اللائق بمن ائتمنهم الله على حمل أمانة العلم أن يتفرجوا على الشعب المسلم يتلاعب هؤلاء المفسدون بثوابته ومبادئه.

والشعب الصومالي يعلم أن قُوَّته في وحدته، وأن تَوزُّعه في دويلات ليس من مصلحته، وإنما تكمن المشكلة التي يعاني منها الشعب في قادته، وفي طريقة إدارتهم لشؤون البلاد، وقد خلق هؤلاء القادةُ أزماتٍ اقتصاديةً خانقةً في البلد، ومن أجلها صارت فجوات بين مُكوِّنات الشعب في أسلوب الحياة، كما أوجدوا عداوات بين القبائل بضرب بعضها ببعض من أجل إشغالها بالحروب عن مطالبة حقوقها منهم حتى صعُب على الشعب العيشُ في بلده، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فاستغل القادة الانفصاليون ذلك الوضع محاولين إقناعَ الجماهير بأن الطريق الوحيد للخروج من تلك الأزمات هو الانفصال، فصارت الجماهير تطالب به في كل الميادين من غير وعي لخطورته، وهي في ذلك معذورة لأنها لا تعلم أن هناك عشرات الطرق غير الانفصال للخروج من تلك المشكلات المعقدة، ولم تكن وحدةُ الصف يوماً مشكلة في بلد بل الحقيقة أن الانفصال هو أبو المشاكل فهو يعقدها أكثر مما هي عليه اليوم.

والشعب الصَّومالي قبل كلِّ شيء يحتاج في هذا الوقت إلى تضميد جراحاته، ورأب الصدع بين فصائله، ولمَّ الشمل بين أقاليمه عن طريق توعية واعية لجذور مشكلاته، ثم وضع حلول بطرق علمية وعملية لدفع خطر الانقسامات، والعلماء هم أحق من يقوم بذلك، ولكن يمنعهم من القيام بذلك هو الخوف على أنفسهم من ردِّ فعل الجماهير المدفوعة من قبل القادة الانفصاليين ليتخذوها ذريعة للإيقاع بهم في الفخ للثأر منهم متظاهرين، وكأنهم ينفذون فيهم إرادة الجماهير حتى لا تُفسَّر تصرفاتهم في ذلك بأنهم خصم للعلماء.

ومع كل ذلك يجب على هذا الصنف من العلماء في جنوب البلاد، وشمالها أن يكسر وا حاجز الخوف والصمت، ويطالبوا الناس برفض مشروع الانفصال المستورد لأن مسألة الانفصال تتعلق بمصير الأمة ومستقبلها، فلا بد من التضحية لأجلها بالغالي والرخيص، فإذا كُسر حاجز الخوف تمكَّن الناس عندها من الإفصاح عما في داخلهم من بيان الأضرار المترتبة على الانفصال من المخاطر الجسيمة للأمة برمتها، وأدرك الناس حينها أن الأمر ليس كما يقوله الحكام الساعون للانفصال، وذلك هو نقطة البداية في وجود معارضة للانفصال في كل الأقاليم الصومالية، وبالتالي تتشكل أحزابٌ، برنامجها الحفاظ على وحدة البلاد، ثم التفكير في وضع نظام مُحكَم للبلاد تتعايش فيه الأقاليم، وتستوي في تحمل الواجبات، وتقاسم الحقوق، وتبادل السلطات دون تجاوزات، سواء كان ذلك عن طريق فيدرالية، أو أي نظام آخر يحافظ على وحدة البلاد، ويحمي حقوق المواطنين، ولن يتحقق ذلك إلا بإنشاء مجالس متعددة، وتوزيع السلطات بينهما بطريقة مفصلة لا تحتمل أوجها تكون مدخلاً للمتحايلين في استغلال سلطاتهم مسبتقبلاً.

([1] ) أصناف الدعاة ( ص 31).

لتحميل الرابط اضغط هنا