إن الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية هي التي احتلت معظم دول العالم بما فيها الدول الإسلامية، وهي في الأصل دول نصرانية متطرفة في نصرانيتها، لهذا فقد حاربت الشعوب المسلمة بعد احتلال أراضيها في دينها وعقيدتها، فأقصت الشريعة الإسلام عن إدارة شؤون الحياة، واستبدلتها بقوانينها الوضعية، وبذلك أُصِيت الأمةُ في مقتلها لأنها بذلك قُطعت عن مصدر عزها ليسهل قيادتها على الطريقة المناسبة للمحتل.
ثم إن المحتل قبل رحيله عمد إلى الدول التي احتلها قبل نيل استقلاليتها ففرَّقها أشلاء بتوزيع ماكر، فلم يؤخذ بعين الاعتبار الروابط الاجتماعية، والعرقية والتاريخية لتك الشعوب عند تقسيم الأراضي بينها، فكان من شأن ذلك تقسيمُ المنطقة الواحدة التي تتكامل مع نفسها في دولتين، كما تم تقسيم القومية الواحدة، أوالقبيلة الواحدة، فجعل بعضَها في هذه الدولة، وبعضها الآخر في الدولة الثانية، حتى تكون بُؤَراً للصراع الدائم بين الدولتين المتجاورتين، تدِّعي كل واحدة الحق لنفسها على تلك المنطقة كلها، وقصد المحتل من ذلك أن يُضعِف الدول بتلك الصراعات المستمرة.
فالدول المتحررة تسير اليوم حسب الخطة التي وَضعَ لها المستعمر للجري خلفه، والاعتماد عليه في كل شيء مجبرة غير مختارة، فمن لا يملك قوت يومه لا يملك قرار نفسه، وهدف المحتل من ذلك أن لا تقوم تلك الدول على قدميها إلى الأبد، كما يهدف المحتل كذلك من تبعية تلك الدول التي احتلها أن تكون سوقاً لاستهلاك منتجاته بحيث لا تنافسه في سوقها دولة أخرى، والأشد والأنكى من هذا كله أن يكون المحتل الأول هو المخول الوحيد لاستخراج المواد الخام من البلد بسعر منخفض يحدده هو، وبعقود طويلة الأجل، والدول مضطرة إلى ذلك لأنها لا تملك الأجهزة التي تُمكِّنها من استخراج خيرات بلادها.
ولأجل هذه العلاقة المعقدة نجد بين الدول المتحررة ودول الاحتلال السابقة ترابطاً وثيقاً بينهما في كل الميادين: الثقافية، والاقتصادية، والعسكرية والسياسية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المحتل ارتحل عن البلاد جسدياً فقط، وقد بقي نفوذه كما لو كان موجوداً فيها لم يختلف شيء عما كان عليه الأمر أيام الاحتلال سوى الشكليات، وإلا كان من المفترض أن يكون بين الدولتين عداء مستحكم لأن الاحتلال إهانة في حق الإنسانية، فكان حق الدول المحتلة أرضُها أن تطالب التي احتلتها بالتعويض بإرجاع كل الحقوق المسلوبة من الشعب، ثم الاعتذار لها في المحافل الدولية، وهو حق الشعب لا يمكن التفريط فيه بحال من الأحوال، وإنما سُكت عنه لحاجة الدول المستقلة إلى المحتل الأول، فلا تريد أن تزعجه بتلك المطالب خوفاً من قطع المساعدات عنها.
ومن ذلك التقسيم الجائر على سبيل المثال: الصومال، فالانجليز كان يحتل كينيا في حين أن إيطاليا كانت تحتل جنوب الصومال، فاتفقا على استقطاع جزء كبير من جنوب الصومال وإعطائه لكينيا على حساب الصومال مكافأة لكينيا على نصرانيتها، والشيء نفسه فعله الانجليز الذي كان قد احتل إثيوبيا لمدة وجيزة بعد طرده إيطاليا منها، فاستقطع هو الآخر جزءاً كبيراً من شمال الصومال الغربي، ومنَحه لإثيوبيا بما عُرف لا حقا بأرض (أغادين).
ومن ذلك الوقت لا يزال التوتر بين الصومال وكينيا من جهة، وبين الصومال وإثيوبيا من جهة ثانية، وقد خاض الصومال حرباً مع إثيوبيا من أجل تحرير غرب الصومال المحتل من قبل إثيوبيا، وكاد يتحرر لو لا تدخل دول خارجية في النزاع مما حرَم الصومال من استعادة الأراضي الصومالية من إثيوبيا، لولا ذلك التدخل لكان الوضع اليوم مختلفاً، أقول ذلك لأنه لوترك لشعب الصومالي وشانه دون تدخل من الأطراف الدولية لوصل إلى نيروبي عاصمة كينيا جنوباً، وإلى إديس أبابا عاصمة إثيوبيا شمالاً، سلماً أو حرباً، وخيرُ شاهد على ذلك أن المناطق الصومالية في كينيا لا تبعد عن العاصمة الكينية كثيراً، وقد وصل الشعب الصومالي إلى تلك المناطق عن طريق الزحف بمواشيه، ثم استوطنها بعد رحيل أهلها منها، ولولا احتلال بريطانيا لكينيا ووقوفها معه ضد الشعب الصومالي المسلم لواصل الشعب الصومالي زحفه جنوباً إلى مشارف نيروبي.
ولوكان الكينيون وحدهم لما فكَّروا في احتلال قطعة من الأراضي الصومالية لعلمهم أنهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم ضد الشعب الصومالي المقاتل الشرس لكن الإنجليز هو الذي أقنعهم بالوضع الحالي حتى تكون العاصمة الكينية بعيدة عن الصومال الحرة، وبذلك يمكن لهم فقط أن تكون عاصمتهم في مأمن من مرمى نيران الشعب الصومالي، ولم يكتف الإنجليز بذلك بل سعى إلى تنصير الشعب الكيني الذي كان معظمُه وثنيا ليضمن بذلك ولاءه له إلى الأبد مقابل ما يوفر لها الإنجليز من حماية، ولهذا فكينيا تعتبر محمية بريطانية ضد الأخطار الخارجية.
أما ما يتعلق بإثيوبيا فقد وصل الشعب الصومالي إلى مشارف أديس أبابا عاصمة إثيوبيا مرات عديدة، وفي بعض الأوقات كان مدينة هرر التي لا تبعد عن العاصمة الإثيوبية كثيراً إمارة إسلامية، ولا زال أهلها مسلمين إلي يومنا، ولكن الانجليز عاملوا الصوماليين في إثيوبيا معاملتهم في كينيا عند الاستقلال، فاستقطع من الأراضي الصومالية كثيراً، وضمها إلى إثيوبيا خوفاً من تأثير الشعب الصومالي في الأغلبية المسلمة الأورومية في إثيوبيا لئلا تقف إلى جنب إخوانهم المسلمين، وذلك يُعرِّضُ في نظرهم النصرانية في إثيوبيا على خطر، ولهذا فأمريكا والدول الغربية تحرص على إثيوبيا في قرن أفريقيا حرصها على إسرائيل في الشرق الأوسط.
العوائق عن توحيد الصومال الكبرى تحت راية واحدة
هناك أسباب كثيرة تقف في وجه توحيد الصومال الكبرى، منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي، ونشير إلى أهم الأسباب.
السبب الأول: إن استقلال الصومال كغيره من البلدان الأخرى كان صوريا لأن المحتل لما خرَج من الصومال بجسده عمل خُطَّة تضمن له استمرار تبعيتها له، فربط سياستها بسياسته، واقتصادها باقتصاده، وتعلميه بتعليمه، وثقافتها بثقافته حتى يتحكم المحتل السابق في مفاصلها بحيث تكون عالة عليه، فلا تستغني عنه بحال من الأحوال، فمصيرها يكون مرتبطاً بمصيره، ولهذا نجد أن كل دولة تحرَّرت من المحتل تكون علاقتها به أوثق من أيِّ دولة أخرى لأنها من دونه لا تستطيع أن تدير أمورها بمفردها، بل تنهار، فتضطر أن تجري وراء المحتل السابق رغم أنفها، ولا يمكن لمثل تلك الدولة أن تفكر في مشروع كبير كهذا المشروع في توحيد الصومال، وهم عاجزون عن إدارة القسم المحرر، ولو لا ذلك لكان المنطق السليم يقتضي أن تكون هناك عداوة بينها وبين المستعمر السابق لما اقترف في حق الشعب من جريمة الاستعباد، ومصادرة كرامته التي لا تعدلها أيُّ جريمة في حق الإنسانية جمعاء.
السبب الثاني: وهو الأهم ـ الدول الأعداء، وعلى رأسها الدول الغربية التي احتلت الصومال سابقاً، ثم قامت بتقسيمها إلى خمسة أجزاء، فالغرض الذي حملهم على التقسيم لا زال قائماً لأنهم يرون أن الشعب الصومالي إذا اتحد تحت راية واحدة، وكله شعب مسلم، له من المقوِّمات ما ليس عند غيره من شعوب القارة الإفريقية، فإنه سوف يُشكِّل خطراً على النظامين النصرانيين القائمين في الدولتين المجاورتين إثيوبيا وكينيا كما حصل ذلك في السابق، فقد كان النزاع قائماً على أشده بين إثيوبيا والصومال، وقد وصل الصوماليون في بعض الفترات إلى مشارف عاصمة إثيوبيا (إديس أبابا) واحتلوا على معظم الأراضي الإثيوبية، فمادام ذلك الخطر قائماً في حال اتحدَ الصَّومال، فلا بد في نظرهم أن يبقى الصومال مقسماً، ولهذا فهم لا يزالون يُصِرُّون على إبقاء الصومال على وضعه الممزق، بل والاستمرار في تمزيقه أكثر فأكثر.
السبب الثالث: ـ وهو متفرع عن الأول ـ هم هؤلاء القادة على الشعب الصومالي الذين تقلَّدوا المناصب بعد خروج المحتل، وقد تربى كثير منهم على أحضانه، فلا يعرفون طريقة لإدارة البلاد غير طريقته التي تعلَّموها منه، فكثير منهم كانوا أوفياء بتنفيذ أجندة هؤلاء الأعداء بالترغيب والترهيب لأن معظمهم لم يكونوا يملكون أي سند شرعي من الشعب لحكم البلاد، فإنهم جاءوا إما عن طريق التزوير في الانتخابات، وإما عن طريق الانقلاب العسكري، فبين الشعب وقادته قطيعة مستديمة، فمثل هؤلاء لا يُنتظر منهم أن يحملوا هم أمة في تحقيق مشروعها المصيري، ثم إن وضع البلد الداخلي كان يحملهم على قبول الإملاءات فإن الرئيس يكون قد ورث بلداً لا يملك أيَّ مُقوِّمات للبقاء غير الاعتماد على المحتل، فكل شيء في الدولة مرتبط بالمحتل السابق كما اشرنا إليه سابقاً، وكان ذلك سبباً يمنعهم من التفكير في السير على عكس سياسة المحتل.
تقسيم الجمهورية الصومالية الحالية
إن الدول الغربية التي احتلت العالم الإسلامي، وقد قسَّمت الشعوب المسلمة بعد احتلال أراضيها إلى دويلات ضعيفة لا تملك مقومات البقاء عادت من جديد لتقوم اليوم بتقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ على مرأى، ومسمع من الشعوب، ويجري الآن تقسيم الدولة الصومالية بعد تقسيم القومية الصومالية سابقاً في أربع دول، وهي: الصومال، وإثيوبيا، وكينيا، وجيبوتي، فالسياسية التي وضعها المحتل عند الخروج من البلاد بدأت تؤتي أكلها الآن في تقسيم كل دولة إلى دويلات، فشرعت كل منطقة في الانفصال عن الأخرى، فصار من المألوف أن نسمع أن جزءاً من الدولة الفلانية أعلن استقلاليته منها، فكان ذلك أشبه بتساقط بعض الأعضاء عن باقي الجسد، فكلما انتهى المحتل من مرحلة شرع في تنفيذ المرحلة الثانية، فلا يهدأ له بال حتى تتلاشى تلك الدول، وتختفي من على الخارطة، ومن رَأى الإماراتِ العربية المتحدة السبعة، وكيف تمَّ تقسيمها بحيث أن كلَّ حيٍّ من أحياء المدينة يزعم أنه بمفرده إمارة مستقلة عن الباقيات، وإنما تشترك معها في السياسة العامة، والوضع مهيأ لأن تكون كل إمارة دولة مستقلة.
الصومال لم يزل مهدَّداً منذ أن وطئت قدماه على هذه الأرض، وازداد الأمر خطورة لما وقع الصومال في الاحتلال لدول غربية نصرانية كإيطاليا، وبريطانيا، وكذلك برتغال في سواحله، وهذه الدول لم تكن تريد للصومال وأهله خيراً، وكان هدفها أن لا تقوم للصومال دولة، وأن تقسَّم الصومال على الدولتين المجاورتين، فالعاصمة مقديشو وما وراءها جنوباً يكون من نصيب كينيا، والعاصمة وما فوقها شمالاً يكون من نصيب إثيوبيا، ومطالبات ملك الحبشة هيلاسلاسي المتكررة من الأمم المتحدة بعدم اعتراف الصومال كدولة مستقلة معروفة ومكتوبة بحجة أن الشعب الصومال شعب بدوي رُحَّل لا يستقر في مكان واحد، وليس مؤهَّلاً لإدارة دولة، ولهذا كان يطالب أن يُضم الشعب الصومالي بأكمله إلى إثيوبيا العريقة، وكانت مطالباته تلقى تأييداً من المجتمع الدولي، إلا أن الشعب الصومالي رفض ذلك بكل قوة، وتشكلت أحزاب في هذا الخصوص، وقد وجد مساندة من دول قليلة في وقتها، وعلى رأسها دولة مصر التي وقفت مع الشعب الصومال لنيل استقلاله من إيطاليا وبريطانيا، والطمع في أرض الصومال يعود إلى أسباب:
1ـ إن أرض الصومال أرض غنية بمواردها المتنوعة، وأعظمها هذا الساحل الذي يمتد لأكثر من ثلاثة آلاف كيلو من شماله إلى جنوبه، وهو أطول ساحل في أفريقيا في حين أن إثيوبيا المجاور للصومال الذي يتجاوز عدد سكانه مائة مليون ليس له منفذ إلى البحر بعد انفصال إريتريا منه، وهذا الذي يزيد من طمع إثيوبيا في الصومال عموماً، وفي الأقاليم الشمالية خصوصاً.
2ـ إن عدد السكان في الصومال قليل نسبياً، بحيث يقدر بخمسة عشر مليوناً في القسم الذي نال الاستقلال، وهذا العدد في نظر الطامعين لا يتناسب مع حجم أرضه الواسعة التي تقدر بما يزيد على ستة آلاف كيلو مربع، وهذا كله في مقابل مائة مليون إثيوبي يرى أن الأرض الصومالية جزء لا يتجزأ من أرض إثيوبيا، لهذا كان من الصعب على الصومال الدفاع عن أراضيه وهو موحد، فكيف إذا انقسم إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، فلا شك أن ذلك يزيد من طمع إثيوبيا في الأراضي الصَّومالية.
3ـ إن الشعب الصومالي الذي نال استقلاله يسعى إلى تحرير الأجزاء المحتلة من أراضيه من قبل إثيوبيا وكينيا، وقد خاض الصومال في سبيل ذلك حروبا متعددة مع إثيوبيا آخرها عام (1977م). ولإضعاف الصومال تسعى الدول المجاورة بمساعدة الدول الغربية النصرانية إلى تقسيم الصومال الحر إلى دويلات بحيث تضيع الحكومة المركزية، لأنه بعد تقسيم الصومال لا يكون هناك طرف صومالي يحق له المطالبة بالأراضي المحتلة لإثيوبيا أو لكينيا، وهذا هو الحاصل الآن، فالصوماليون اليوم فهم في الوقت الذي هم مشغولون في طريقة تقاسمهم لدولتهم الصومالية يفكر أعداؤه المجاورون في طريقة ابتلاع تلك الأجزاء بعد انفصالها من الصومال.
4ـ وعملاً بقاعدة (خير القتال الهجوم) اتخذت الدول المجاورة خطاًّ معاكسا فبدلاً من الانشغال في الدفاع عن الأراضي التي تحتلها من الصومال شرعت هي الأخرى في مطالبة أجزاء أخرى من الصومال الحر حتى يتم الاتفاق في نهاية المطاف على ترك الحدود على ما هي عليه، فيكون الشعب الصومالي هو الخاسر لأنه لا يحق له بعد ذلك مطالبة بقية الأراضي المحتلة التي يشير إليها عَلَمُه الخماسي، بل سيتعين بعد الانفصال التخلي عن الصومال الكبرى، فمن عجز عن المحافظة على الدولة الصومالية الحالية فلن يكون في وسعه المطالبة بالأراضي المحتلة سواء في إثيوبيا، أوكينيا.
إن اعتماد تقسيم المحتلين للبلاد التي احتلوها على الطريقة التي يرونها قبل رحيلهم عنها أشبه بتقسيم الثعلب لحم الفريسة بين الأسد وبقية السباع، فالمحتل هيأ البلاد التي احتلها بعد رحيله عنها لتكون مزرعته الخلفية، ومحميته التابعة له بحيث لا يحق لأحد أن يزاحمه فيها غيره، ويفعل فيها ما يشاء من التقسيم والتجزئة، فالشعوب اليوم ليس بإمكانها أن تفعل كل ما تريده لأن الأمر ليس بيدها.
فإن صعب على الشعب الصومالي في الوقت الحالي تحرير المناطق المحتلة من أرضه، فلا أقل من الحفاظ على الدولة الصومالية الحرة، ثم إن العجز عن استرداد الحقوق لا يعني التنازل عنها، فالوصول إلى الهدف المنشود يتطلب صبراً، وعملاً دءوباً للوصول إلى المبتغى في نهاية المطاف لكي تستعيد قوتها ومجدها وحريتها، وإرادة الشعوب لا تُقهر إن هي وَجدت قيادة صالحة، فالأمة قادرة على كسر خطة المحتل السابق كما أنها استطاعت أن تَحرَّر منه رغم أنفه، ولو كان بإمكانه أن يستمر في احتلال تلك البلدان إلى الأبد لفعل، ولكن حال دون ذلك إرادة الشعوب الرافضة للاحتلال، فعلى الشعوب أن تخوض حرباً من نوع آخر للتحرر من السير على سياسة المحتل السابق.
العالم يتحد والصومال يفترق
إن العالم الذي نعيشه اليوم هو عالم التكتلات، فليس هناك من دولة تستطيع أن تعيش بمفردها عن العالم، فهذه أمريكا التي هي أقوى دولة في العالم لم ترض أن تعيش وحيدة، بل سعت لتأسيس حِلف يضم معظم الدول المتقدمة، لئلا تُستخدم تلك الدول ضدها من أيِّ طرف آخر، فبدلاً من أن تكون تلك الدول عدوها المحتمل، تكون اليوم صديقها المحقق، فتزداد بها قوة على قوتها لتستقوي بها عند نشوب حرب عالمية، وهذا هو التفكير المنطقي المبني على التخطيط السليم للدول التي تملك رسالةً في تنفيذ خطتها، ورؤيةً في تحقيق أهدافها.
وأما أشباه الدول التي تُقاد بالتخبُّط بدلاً من التخطيط، وبالارتجالية بدلاً من التفكير، فليس لها مكان تعيش فيه في هذا العالم، وإنما تظهر لفترة وجيزة، ثم تختفي من على الخارطة إما بنفسها، أو بفعل فاعل، فالشعوب في حالة الانحطاط كالماء في حالة الانحدار من العلو، فكما لا تستطيع أن تمنع تلك المياه من النزول إلى القاع بيديك، فكذلك لا تستطيع أن توقف انحطاط الشعب إذا كان هو الذي يريد ذلك باختياره.
فالشعب الصومالي بدلاً من السعي إلى استرجاع الأجزاء المستقطعة من أراضيه يقوم اليوم بتقسيم الجزء الذي نال استقلالاً إلى أجزاء متفرقة، كل منها يحمل اسم دويلة لا تملك مقومات للبقاء، وهو يعلم أن هناك من يتربص بكل جزء ينفصل ليبتلعه كما ابتلع غيره من الأجزاء الأخرى، فهل هذا الشعب الذي يفكر بهذه الطريقة يستحق أن يعيش بكرامة، أو يحق أن يشتكي من ظلم الغير في المستقبل، وقد ظلم نفسه بأبشع صور الظلم.
الاجتماع على الدين هو الأصل في توحيد الشعوب و الأوطان
توحيد صف المسلمين ليس ترفاً، يقوم به من شاء، ويتركه من شاء، بل هو فريضة من فرائض الإسلام، وكلية من كلياته، تركُه مع القدرة عليه كبيرة من كبائر الذنوب، له تبعاته في الدنيا، وعقابه في الآخرة، قال الشيخ صالح الفوزان: (فإن اجتماع المسلمين ونبذ الفرقة فيما بينهم أصل عظيم من أصول الدين أمر الله به، وأمر به النبي r، ومن المعلوم أنه لا دين إلا باجتماع الكلمة، ولا اجتماع إلا بإمامة وقيادة، ولا قيادة إلا بسمع وطاعة كما قال السلف).
إن الشعب الصومالي من الشعوب المسلمة التي تنطلق من مرجعية شرعية إسلامية، ولهذا لا بد من إحاطة الشعب الصومالي بالحكم الشرعي في توحيد الصف، وجمع كلمته، وقبل الحديث عن توحيد الأمة الإسلامية تحت راية، فلا بد من الحفاظ على ما هو موجود ومقدور عليه حاليا، وهو الحفاظ على وحدة أراضي كل دولة، ومنعها من التفكك، حتى لا نكون كمن يطلب ربحاً، فيخسر رأس ماله، فالمرحلة الأولى هي الحفاظ على المكتسبات الحالية، فإذا تحقق ذلك عندئذ يحق لنا أن نطلب مزيداً من التكامل مع إخواننا الصوماليين في الأراضي المحتلة، ثم مع من بجوارنا من الشعوب المسلمة، فالأقرب والأقرب.
وانطلاقاً من تلك المرجعية للشعب الصومالي التي هي الإسلام الذي آمن به أباً عن جد، فإننا نذكِّره بنصوص الشرع الحنيف التي تُوجب عليه أن يتحد كله على الدين، ولا يتفرق فيه،لأن ذلك هو الأصل في كل ما عداه من جمع كلمة الشعب، وتوحيد الوطن، وبدون ذلك الأصل، فالأمة تكون في مهب الريح، ولا تكون عند الله في شيء، قال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) وهذا وعيد شديد للأمة المسلمة إذا هي تخلَّت عن ذلك المنهج الرباني الذي رسمه لهم رب العالمين، فإن ذلك يُعرِّضُها للزوال، قال ابن كثير: (إن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعُه واحد لا اختلاف فيه، ولا افتراق، فمن اختلف فيه، وكانوا شيعاً أي فرقا كأهل الملل والنحل، وهي الأهواء والضلالات ـ فالله برأ رسوله مما هم فيه).
تلخيص دلائل توحيد كلمة المسلمين في الشرع من ستة وجوه
الوجه الأول: هناك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة جاءت بالأمر بتوحيد الصف، ووجوب السعي إليه، منها قول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً). والله ـ تبارك وتعالى ـ حينما يأمرنا بجمع الكلمة إنما يأمرنا بذلك لأن ذلك لمصلحتنا كأمة ذات رسالة منوطة بالقيام بواجب الإبلاغ لرسالات الله إلى العالم، فلا بد أن تقوم الأمة على قاعدة صلبة تستند إليها من التماسك والترابط على أساس متين، تعتمد عليه في إبلاغ رسالات الله قبل أن تدعو الأمم الأخرى إلى المنهج الرباني.
الوجه الثاني: هناك نصوص أخرى كثيرة من الكتاب والسنة أيضاً نهت عن الاختلاف والتفرق في الدين مع أن الأمر بتوحيد الصف يقتضي النهي عن ضده، وكان ذلك وحده كافياً، ومع ذلك جاءت النصوص ناهية عن التفرق تأكيداً على أهمية جمع الكلمة، وعدم التفرق في دين الله، ومن تلك النصوص قول الله تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
الوجه الثالث: بيَّن الله الحكمةَ في النهي عن الاختلاف في الدين، والتفرق فيه لما يترتب عليه من الفشل في بلوغ الأهداف في الدنيا من جعل كلمة الله هي العليا قال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) ناهيك عن الآثار السلبية التي يُخلِّفُها الاختلاف في المجتمع من التقاطع، والتدابر، والأحقاد أضف إلى ذلك مع ما للأعداء في تفرق المسلمين من مصلحة لأنه هو السبيل الواحد في التغلب عليهم.
الوجه الرابع:إن الله رتَّب العذاب العظيم على الاختلاف في الدين، والتفرُّق فيه كما بين ذلك في قوله تعالى:(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
ولنا أن نتساءل لما ذا يعاقبنا الله بالعذاب العظيم إذا تفرقنا في الدين لأن المتفرقين فيه لا يتمكنون من إقامة الخلافة في الأرض على الوجه المطلوب لا على أنفسهم، ولا على غيرهم من الأمم الأخرى، فلما كان التفرق في الدين سببا مانعاً من تحقيق الهدف الذي من أجله خُلقنا في هذا الكون ناسب أن يكون العقاب على الواقعين فيه شديداً.
الوجه الخامس: يجب على المسلمين حرصاً منهم على وحدة صفهم أن يقتلوا كل من يريد أن يشق صفهم، ويفرق كلمتهم، وفي ذلك يقول النبي r فيما رواه مسلم في صحيحه (من جاءكم، وأمركم واحد، يريد أن يفرق كلمتكم، فاقتلوه كائناً من كان).
ومن هنا ندرك أهمية جمع الكلمة، فيباح من أجلها إراقة دم المسلم الذي هو أعظم إثماً عند الله من هدم الكعبة، وإنما صارت كذلك لأن تفريق كلمة المسلمين تعريضٌ لجميع المسلمين للقتل في الدنيا على أيدي أعدائهم، وللعذاب الأليم في الآخرة، فإذا اجتمع ضرران، وكان لا بد من ارتكاب أحدهما، فيلزم ارتكاب أخف الضررين من أجل دفع أعظمهما على أن يكون دفع شره بالأدنى فالأدنى، ولا يصار إلى القتل إلا إذا تعذر دفعه بما دونه، قال النووي في قول النبي r (كائناً من كان): فيه الأمر بقتال مَن خرج على الإمام، وأراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل،كان هدراً).
الوجه السادس: أشار إليه بعض أهل العلم بقوله: (إن التنازع والتفرق يصيب البعض بالإحباط والتثبيط، فينزوي بعيداً، وينكفئ على نفسه مؤثراً السلامة كما تزين له نفسه، فتُحرم الأمة من خيره وجهده وإضافته، ويكون أسوة سيئة، ونموذجاً سلبيا لغيره). وصدق في ذلك فليس هناك ما هو أعظم من أن يصاب المرء بالإحباط بأن يُقنع نفسه بأن ليس بإمكانه أن يقدم للمجتمع شيئاً، فيستسلم للفشل واليأس، وهذا بحد ذاته ذنب عظيم.