تمزيق وحدة الصَّومال الكُبرى بتخطيط أعدائه وتنفيذ أبنائه

تمزيق وحدة الصَّومال الكُبرى

بتخطيط أعدائه وتنفيذ أبنائه

المقال الثاني

كتبه الدكتور/ عمر إيمان أبوبكر

1443هـ= 2022م

 

التدافع بين الحق والباطل

إن هذا الكون قائم على التدافع بين الحق والباطل، وقد ابتَلى الله المؤمنين بالكفار كما ابتلى الكفارَ بالمؤمنين، فالكل يسعى جاهداً لتحقيق مشروعه، ثم فرضه على الآخرين بالإقناع، أو بالقوة إن لزم الأمر، وذلك يُفضي إلى التصادم بين الفريقين، وبعدها يكون النصر حليفاً لمن استكمل أسباب النصر، ويكون غالباً عليه ما لم يُخِلَّ هو بأسباب النصر، فيتغلَّب عليه الآخر، ولو بعد حين، وتلك سنة الله في تبدل أحوال الأمم من نصر إلى هزيمة، ومن هزيمة إلى نصر جرياً على النواميس الإلهية التي وضعها في الأرض، من أخذ بها انتصر على غيره، ومن أخلَّ بها عُوقب بالذل والإهانة. (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ولو ذلك لاختلط الحابل بالنابل، ولتظاهر بالصبر من ليس من أهله، وادعى الشجاعة من لم يتصف بها، ولكن يتميز الناس عند الابتلاء (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم).

النصر كان حليف المسلمين

فمن هجرة النبي r إلى المدينة المنورة، وتأسيسه فيها دولة الإسلام إلى آخر الخلافة العثمانية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي كانت الغلبة للمسلمين على الكفار في أغلب المواجهات التي دارت بين الطرفين عبر العصور، ولا يعني ذاك عدم وجود فترات ضعف للمسلمين حصل لهم فيها انكسارٌ هنا وهناك، ولكن سرعان ما كانوا يتداركون ذلك بمراجعة النفس بإصلاح ذلك الخلل، ثم الأخذ بزمام المبادرة من جديد (إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).

وليس المقصود بتذكيرنا بإنجازات أمة الإسلام في الماضي التغطيةَ بها على فشلنا في الوقت الحاضر، فذاك غير لائق بمن ينتسب إلى أمة محمد r، ولا يصح أن يُتخذ بإنجاز جيل من الأجيال في فترة من الفترات تبريراً لتقصير أجيال أخرى بعده (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون).

 وإنما الهدف في ذكر مآثر السابقين هو الاستلهام بإنجازاتهم لاستنهاض همم الحاضرين، ثم النظر في أسباب قوتهم وضعفهم لأخذ العبر منها، فمن غير المعقول أن نُهمل تاريخ أمتنا في إنجازاتها، ولا نعيره اهتماماً، وهي التي لولا الله ثم هي لم نكن اليوم على هذه الأرض التي نعبد الله فيها، فقد بذلوا ـ رحمهم الله ـ دماءهم رخيصة في سبيل ضمها إلى أرض الإسلام، فنحن إن لم نكن نقدر على توسيع رقعة الإسلام، فلا أقل من أن نحافظ على مكتسباتهم حتى نؤديها للأجيال اللاحقة، فتلك أمانة في أعناقنا، فكل جيل يبني على جهود من قبله، فمن لم يكن له تاريخ مُشرِق لم يكن له مستقبل مُشرِّف.

   الإحباط الذي تعيشه الأجيال اليوم سببه جهلها عن تاريخ أمتها في الماضي

ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين اليوم يظنون أن هذا الضعف القائم بالمسلمين اليوم ابتدأ معهم منذ نشأتهم، ولم يفارقهم إلى يومنا، وكأنهم يريدون  أن يتوصَّلوا بذلك إلى أن هذا الضعف القائم بنا نحن المسلمين اليوم هو قدَرُنا الإلهي، فما علينا إلا أن نرضى به حتى نلقى الله به، وهؤلاء معذورون في ذلك الظن لأنهم لا يعرفون شيئاً من تاريخ المسلمين وفتوحاتهم وقيادتهم للعالم دون منازع لأكثر من ألف سنة كما أنه كذلك لن يدوم هذا الضعف القائم بالمسلمين على ما هو عليه اليوم، فالنصر قادم لهذه الأمة لا محالة أخبرَ به أصدقُ القائلين في قوله تعالى: (ولقدكتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).

(ونحن وإن كنا لا ندري بالتحديد الوقت الذي يتحقق فيه ذلك الوعد الإلهي، وعلى يد مَنْ مِنَ الأمة يحصل، إلا أن كلَّ المؤشِّرات تدل على قُرب وقوع ذلك، وإن إصرار الشعوب المسلمة على العودة إلى الإسلام بمختلف الوسائل من جديد لهو جزءٌ من تلك المؤشرات، فأنت أيها المسلم بين مفترق الطرق، فإما أن تكون عضواً فيمن يُقيم الصرح الإسلامي بكاهله، أو تكون جزءاً ممن تتعثر بهم مسيرة الأمة بسوء أفعاله، فيتم استبعاده قضاءً من الله لإفساح المجال لأناس اختارهم الله على غيرهم لخدمة دينه )وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (([1]).

المجتمع الصَّومالي مجتمع بدوي

الشعب الصَّومالي شعب بدوي الأصل، ولا يزال معظمه كذلك، فهو يعتمد على نفسه في تصريف أموره، ينتقل من منطقة إلى أخرى حسب مصلحة مواشيه، فكلما اقترب أحدٌ ليسكن بقربه ابتعد عنه، ولا يجد راحته إلا بالانفراد عن الآخرين، وإن خرج من أسرته الخاصة به، فلن يتجاوز قبيلته التي يرتبط بها في الحرب والسلم، وفي صلة الرحم بتعزية أقاربه إذا مات منهم أحد، والمشاركة معهم في دفنه، ثم القيام بواجب الضيافة إن نزل أحدهم عليه ضيفاً.

ومن طبيعة الشعب الصومالي كذلك أنه يعشق الحركة والتنقل بين الأقاليم، وهذا الذي مكَّنه من التوسع في الأراضي المجاورة، فأيُّ أرض وصل إليها بسطَ نفوذه عليها، وأكرهُ شيءٍ عنده هو تقييدُ حركته، فاصطحب الشعب الصومالي معه بتلك العادة من البادية إلى البلد، ومن البلد إلى الدولة، ومن الدولة إلى الدول، فلوكان عند كل منهم جوازٌ يمكنه من التنقل بين الدول لتفرقوا في بلدان العالم، ولهذا يذهب كثير منهم إلى بلاد الغرب ليس لغرض الإقامة فيها، وإنما لغرض الحصول على جواز يمكنهم من السفر إلى أيِّ قارة يشاءون.

والشعب الصومالي لبداوته وقبليته المتأصلة لا يعرف غير تحقيق مصلحته في كل ما يقوم به من عمل، فما زاد منها على مصلحته الخاصة، فلقبيلته، الأقرب فالأقرب، وليس في قاموسه شيء اسمه تحقيق المصلحة العامة بإقامة مشاريع تعود بالنفع على الجميع، وقد اتفق المصلحون على أن التخلية تسبق التحلية، فعلى المربي قبل غرس الخصال الحسنة في المجتمع لا بد من تخليص المجتمع من الخصال السيئة المتأصلة فيه، وعندئذ يحسن غرس الخصال الحسنة، ولكننا نحن الصوماليين أخطأنا الطريق في ذلك، فشرعنا في بناء كل الإصلاحات على القبلية التي هي بمثابة سوس ينخر في عظام أيِّ إصلاح، فبيننا الدينَ على القبيلة، والدولةَ على القبيلة، والمصلحةَ على القبيلة.

 ولهذا نجد أنه عندما يحدث الصِّدام بين الدين والقبيلة تقوى القبيلةُ على الدين، وعندما يتعارض الولاء للدولة مع ولاء القبيلة يترجح ولاءُ القبيلة على الولاء للدولة، وعندما تتعارض المصلحةُ الشخصيةُ مع المصلحة العامة تتأرجح المصلحةُ الخاصةُ على المصلحة العامة، لأن القبيلة هي الأصل الذي يعود إليها كل شيء، ولهذا بقيت القبيلة في كل التقلبات لأنها الأصل في نظرهم، ويزول غيرها لأنه الفرع، فالصومالي يحتفظ بقبيلته في كل الأحوال، فالقبلية المتجذرة تتحكم فيه، وهي تعني باختصار مراعاة مصالحها الخاصة، وإن ترتب عليها ضياع مصالح الأمة، وتلك النظرة تتعارض مع نظرية الدولة التي هي في مضمونها تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وأنا أضرب لكم على صحة ذلك بثلاثة أمثلة في مجالات متباعدة لندرك من خلالها أن تفكك الصومال لم يأت من فراغ، بل إن ذلك راجع إلى  الطبيعة المركوزة في الشعب الصومال من التنافر فيما بين مكوناته بسبب انتماءاته القبلية استغلها أعداء الشعب الصومالي في تقسيماته.

 فأول تلك المجالات: مجال الحكومة، فالشخص الصومالي إذا تولَّى منصباً من المناصب، فالأولوية عنده تحقيقُ مصلحته الشخصية أولاً، وما زاد عليها، فلقبيلته الأقرب فالأقرب، وليس هذا التصرف وليد يومه كما يظنُّه بعض الناس، بل كان هذا معمولاً به حتى قبل شرعنة القبيلة في الفيدرالية الصومالية الحالية، وإنما اختَلف الأمر بعد شرعنة القبيلة أنه صار حقاً معترفاً به بعد أن كان يمارس به في الخفاء، فتمثيل الشخص في الحكومة يكون بقدر نفوذ قبيلته، وهو موظفٌ في الحكومة صورةً لا حقيقة، فالنظام القائم في الصومال ظاهرُه دولةٌ، وحقيقته تجمعٌ قبليٌّ، فغاية ما في الأمر أننا سمينا المحاصصة القبلية في الوظائف العمومية تعددية جهوية من باب تسمية الشيء بغير اسمه، وذلك لا يغير من الحقيقة شيئاً.

فالمجتمع الصومالي بتركيبته الحالية غير مؤهل لبناء دولة، وإدارة شؤونها، والغريب في الأمر أنه مع كل هذا لا يرى أنه ينقصه شيء، وهذا التفكير على هذه الطريقة يقضي على كلِّ أمل في التغيير لأن الإنسان يُرجى له الخير ما دام يرى أنه بقي له شيء لم يصل إليه، ويسعى إلى تحقيقه، أما إذا آمن أنه وصل إلى درجة الكمال والتمام، فلا أمل عنده في التغيير، بل يُحافظ على ما هو عليه، وذلك يعني تكرار الخطأ القائم، والتمسك به إلى الأبد، فلا يتعلم شيئاً من الحياة لأنه يعتقد أنه دائماً على الحق.

أما المجال الثاني فهو مجال التدين، فالشعب الصَّومالي متدين بطبعه، ينتمي كله إلى الإسلام أباً عن جد، وهو بذلك يفتخر على الشعوب الأخرى، فالإسلام والصومالية في نظره قرينان لا ينفصلان، بل وفي اعتقاده أنه لا يخرج الصومالي عن الإسلام مهما ارتكب من الموبقات، ولو كانت مخرجة عن الملة ما دام أنه صومالي لأن الإسلام جزءٌ من هويته التي لا تفترق عنه، ولكن مع هذا كله فالشعب الصومالي حين اعتنق الإسلام لم يَدخل فيه قَلباً وقالباً، ظاهراً وباطناً، جسداً وروحاً، وإنما اعتنق الإسلامَ مع الاحتفاظ بما قد يتعارض معه أحياناً من موروثات القبيلة من عادات، وأعراف، وتقاليد.

 وخير برهان على ذلك أن الحرب بين القبائل الصومالية قائمة منذ قديم الزمان على أشدها لا تتوقف، وازداد أوارها في الآونة الأخيرة، فرايةُ السلم والحرب بين القبائل معقودة على القبيلة، والتحاكم بين القبائل في الخصومات إلى الأعراف، وقوانين القبيلة، فلوكانت أخُوَّتهم الإسلامية صادقة لما أقدم مسلم على قتل أخيه المسلم من أجل القبيلة لكن الصوماليين بنوا الإسلام على القبيلة، فهي قاعدته التي يستند إليها، فإن تعارضت هي والإسلام، فهي المقدَّمة عليه، ولهذا لو نادى الشخص الصَّومالي في المواجهات المسلحة باسم القبيلة هبَّ الجميع ممن تجمع بهم تلك القبيلة لنصرته، ولو استنصرهم باسم الإسلام لما التفت إليه أحدٌ لأن الإسلام في نظرهم لا دخلَ له في الحرب والسلم.

ولهذا يحتار من يتابع الوضع الصومالي في بلده عن كثب، فيتساءل عن مشكلة الشعب الصومالي، فعلى أيِّ أساس يتقاتلون، وكلهم كما يزعمون  قومية واحدة، وكلهم مسلمون، وكلهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وكلهم على مذهب الشافعي في الفقه، فلا يجد أحدٌ منهم جواباً مُقنِعاً على ذلك السؤال، ولكننا نقول في الجواب عنه: صحيح أن تلك المقومات حقها أن تَجمَعَ، ولا تُفرِّق، وتبنِي، ولا تَهدم، ولكن تكمن المشكلة فينا نحن الصوماليين، حيث بنينا تلك المقومات على أصل فاسد، فأفسد علينا كل تلك المقومات، فصار وجودها كعدمها، فلم تُجْدِ نفعاً في توحيد كلمة الشعب، ولا في تحقيق الأخوة الإسلامية، ولكون المجتمع الصومالي يتصف بالشيء ونقيضه (الإسلام والقبلية) يراوح في مكانه لا يتقدم قيد أنملة.

ومن المفارقات العجيبة في هذا المجال أن الجالية الصومالية في أورباوأمريكا قد اشتهرت من بين الجاليات الإسلامية بنشاطها الإسلامي، بل وتفوُّقها على غيرها من الجاليات الإسلامية الأخرى في مجال الدعوة، والإرشاد، والتعليم، والتحفيظ، فقد أسست الجالية الصومالية المراكز الإسلامية، وأنشأت المدارس، وأقامت الدُور لتحفيظ القرآن الكريم، وبنت المساجد، وأقامت فيها الدروس، وأظهرت الشعائر الإسلامية من الحجاب وغيره، وأوجدت الأسواق التي تلبي حاجات الجالية الإسلامية في بلاد الغُربة، فتتساءل الجاليات الإسلامية الأخرى في الغرب قائلة: إذا كانت الجالية الصومالية على هذا المستوى من الوعي الديني، فلم هذا الصراع المرير بين الشعب في الصومال، وهذه جاليته أفضل الجاليات، فالمفترض أن يكون الشعب أفضل الشعوب، فيصعب على المرء التوفيق بين ما يراه من الجالية الصومالية من الخصال الحميدة، وما يسمعه من الشعب الصومالي من الهمجية في بلد الأم، فهما شيئان لا يجتمعان.

ولكن عجبه ذلك يزول عنده إذا عُرف السبب، وهو القبلية المتجذرة في الشعب الصومال بحيث لا يستطيع الانفكاك عنها في كل مكان هو فيه، ولهذا فليس من الغريب أن تسمع الصيحات، وارتفاع الأصوات في المساجد التابعة للجالية الصومالية، وعند الاستفسار عن ذلك يتفاجأُ المرء بأن ذلك راجع إلى اختلاف الجالية الصومالية فيما بينها على المسجد بسبب انتمائها القبلي، كلُّ قبيلة تريد أن تستأثر بإدارة المسجد، فهذه الجالية الصومالية التي نفع الله بها الإسلام في الغرب هي تشكو من نفس الأمراض التي يشتكي منها المجتمع الصومالي في بلده، فلم تستطع الجالية الصومالية أن تتحرر من القبلية البغيضة التي هاجرت بسببها من بلادها.

أما المجال الثالث فهو مجال المصالح العامة والخاصة، فالتفاوت بينهما ظاهر للعيان في كلِّ مكان، فيه تجمعات صومالية، فالموجود اليوم في الصومال منذ سقوط الحكومة المركزية هي مشاريع خاصة أنشئت لتحقيق مصالح شخصية، القصد منها التربح على المواطن المسكين، فيحصل تنافس غير شريف بين الناس في هذا الاتجاه من غير ضوابط ولا رقابة، لهذا فقد أقيمت مشاريع عملاقة تعود منافعُها للأفراد محل المشاريع العامة، فانعدمت بذلك جميع الخدمات التي كانت الحكومة تقدمها للمواطنين، فلا يتحصل المواطن العادي اليوم عليها إلا بالمقابل.

 وليتهم وقد استفادوا من الموارد العامة لصالحهم أقاموا بعض المشاريع الخدمية التي تمس إليها الحاجة لصالح العام كإقامة البنية التحتية للبلد، فاختلال التوازن ظاهر بين المشاريع القائمة ومتطلباتها الخدمية، فصارت بسببه المدنُ الصومالية مُشوَّهة، فقد تجد القصور ناطحات السحاب وبجانبها المستنقعات التي تُحيط بها من كل الجهات، لا تخطئها العين، ولا يدرك مالكها أن وجود المستنقعات بجانبها يجعل قصوره تلك بلا قيمة، فالمنطق السليم يقتضي أن يقوم بإصلاح المستنقعات قبل بناء القصور، وبتحقق المصالح العامة تتحقق المصالح الخاصة تبعاً بخلاف العكس.

 ولأهمية المصالح العامة جاءت الشريعة بتفويت المصلحة الخاصة لتحصيل المصلحة العامة عند تعارضهما، فعلى سبيل المثال لو تطلَّب الأمر هدم بعض البيوت لشقِّ طريق عام بين الحارات تعين ذلك، فالهدم وإن كان فيه ضرر على بعض الأسر لكنه يُحتمل ذلك الضرر الخاص لتحصيل المصلحة العامة، وكذلك لو أصيب شخص بمرض مُعدٍ فإنه يتوجب على الدولة فرض الحَجر عليه، ومنعُه من الاختلاط بالناس، فتمَّ تفويتُ مصلحته الخاصة من الحركة والاختلاط بالناس لتحصيل المصلحة العامة، وهي وقاية المجتمع من عدوى المرض الذي يحمله، فمهمة الدولة الأساسية تكمن في تحصيل المصالح العامة للمجتمع من تعبيد الطرق، وإقامة المستشفيات، والمدارس، والجامعات، وتأمين الحدود، وتوفير الأمن، ومحاربة الفساد وغير ذلك، فإن عجزت الدولةُ عن القيام بمفردها بتحقيق المصالح العامة فإنها تفرض على الأغنياء بما يلزم للقيام بذلك، كل بحسب مقدار ماله.

إن الشعب الصومالي في الأراضي المحتلة أحسن حالاً، وأكثر استقرارا من الشعب الصومالي في الصومال الحر

إن مما يؤسف له، ويندى له الجبين أن يكون الشعب الصومالي في الأراضي المحتلة في كينيا، أو في إثيوبيا أحسن حالاً، وأكثر استقراراً من الشعب الصومالي في الجمهورية الصومالية، وهذا الوضع إن استمر على ما هو عليه، فسيقضي على كل أمل لسعي تلك الشعوب إلى نيل الاستقلال من المحتل لأنهم يحمدون الله على ما هم عليه من الأمن والاستقرار الذي يفقده إخوانهم في الدولة الصومالية الحرة، وكأنهم يقولون بلسان حالهم في الأراضي المحتلة، فلئن أكون مظلوماً في دولة العدو أهون عليَّ من أن أكون مظلوماً في أرض إخواني في النسب والدين، قال الشاعر:

(وظلم ذوي القربى أشد مضاضة…على النفس من وقع الحُسام المهند)

وبهذا الطريقة يكون الشعب الصومالي في القسم الحر سبباً لتقاعس الشعب الصَّومالي عن محاولة التحرر من المحتل الكيني، أو الإثيوبي، أليس من المخزي أن يتمنى الشعب الصومالي اليوم أن يعيش في الأرض المحتلة الصومالية في كينيا      أوإثيوبيا، ويحصل على جنسيتها، فيكون من ضمن المحتلين على حساب حريته، وكرامته، وقد وصل الأمر ببعضهم أن يعتز بكونه كينيا، أو إثيوبيا، ويفتخر به على إخوانه في أرض الأم (الصومال).

كان الشعب الصومالي في الأراضي المحتلة الصومالية لكينيا، أولإثيوبيا يتوقع أن يهب إخوانُه في الصومال الحر لمساعدتهم على نيل استقلالهم من المحتل لينضموا إليهم في نهاية المطاف، وللأسف لم يحدث ذلك، صحيح أن جنرال محمد سياد بري قام بمحاولة غير مدروسة في تحرير الإقليم الخامس الصومالي من إثيوبيا، ولكن تلك لمحاولة باءت بالفشل لأنه لم يكن يستند في تلك الحرب إلى حبل من الله، ولا إلى حبل من الدول الكبرى، فجاءت الحرب بنتيجة عكسية، فبدلاً من تحرير الأرض المحتلة وقعت بعضُ الأراضي الصومالية الحرة في الاحتلال الإثيوبي.

فالشعب الصومالي في الوقت الذي لم يساعد إخوانه في الأراضي المحتلة على تحرير أراضيه لم يحافظ هو على كيانه ودولته في الأرض الحرة حتى يكون سنداً للشعب الصومالي المحتلةِ أرضُه، فيطمع أن يتحرر يوماً ما من قبضة المحتل  لينضم إلى ذلك الشعب الحر بقيادته الرشيدة، ولكنه بكل أسف لم يُقَدِّرِ الشعبُ الصومالي نعمة الله عليه في الاستقلال الذي تمتَّع به، والحرية التي ينعم بها بل فوَّتهما على نفسه بالصراعات الداخلية، والاختلافات بين مكوناته، فصار أشقى من الشعب الصومالي في الأراضي المحتلة، ولا شك أن ذلك أصاب الإخوة في الأراضي المحتلة بالإحباط، فاضطرهم إلى الاستسلام للاحتلال إذ لا يلوح في الأفق أيُّ أمل لهم في نيل حريتهم.

فأخشى إن استمر الوضع على ما هو عليه أن يأتي ذلك اليوم الذي يطلب فيه بعض الأقاليم في الصومال الحر أن ينضم إلى كينيا أو إثيوبيا، فيختار الاحتلال على الاستقلال، والشعوب معذورة فيما تتخذه من القرارات وإن كانت لا تنسجم مع مبادئها وثوابتها بسبب سياسة قادته التصادمية، ومصالحها المتقاطعة فقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وحُرِم الشعب الصومالي من العيش في بلده بأمان وكرامة.

([1]) مابين الهلالين مأخوذ من مقال سابق كتبته في التدافع على الساحة.

لتحميل الرابط اضغط هنا